Thursday, March 31, 2016

التصوف في الأغنية الكويتية

   تتعدد بنية الاغنية الكويتية تبعاً لطبيعة ثقافة المجتمع المنبثقة منه، فالفن هو النشاط الانساني الذي يعكس ثقافة المجتمع بصورة جمالية، حيث تُقسم الأغنية الكويتية إلى الفنون البحرية المتصلة بالعمل الذي يمارسه البحارة كطلاء السفينة والابحار ورفع الاشرعة والرسو ... الخ، التي تضم فنون الحدادي بأنواعه المختلفة والياملي والدواري والنهمة والسنجني، فنون المدينة كفن الصوت، وفنون القرية مثل السامري والخماري والقادري، وفنون البادية كالعرضة والفريسني والمجالسي.

   والذي يُميز كل فن من هذه الفنون المتنوعة عن بعضها الآخر هو الايقاع وطبيعة الجُمل اللحنية والشعرية لكل فن منها، إلا أن الايقاع هو أساس الأغنية الكويتية.

   ولا نعلم تاريخ ولادة هذه الفنون بالتحديد، انما يمكن القول انها نشأت بعد مضي عدة سنوات من تأسيس الكويت عام 1613 من خلال احتكاك أهل الكويت بالثقافات المجاورة كبلاد فارس والعراق والهند واليمن وشرق افريقيا، وهذه الفنون تؤدى من خلال الغناء الجماعي الذي يتخلله الرقص والتصفيق بدون آلات موسيقية سوى الإيقاعات، وظلت هذه الفنون المتنوعة تُمارس وتتداول جيلاً بعد جيل من خلال الفِرق الموسيقية "الشعبية" على مر السنين .
   

فن المالد

   المالد نسبة الى مولد النبي محمد في يوم 12 ربيع الأول من السنة القمرية ، حيث يحتفل العديد من المسلمين في البلاد المختلفة بذكرى المولد النبوي بأشكال مختلفة يغلب عليها الأناشيد الدينية ومدح النبي .


    وكانت ذكرى المولد النبوي تحظى باهتمام أهل الكويت قديماً؛ ففي هذه المناسبة يتجمعون في المساجد والدواوين والمنازل ويحتفلون بقراءة قصة المولد النبوي، ويكون يوم عطلة لطلبة المدارس والموظفين حتى يومنا هذا، وندلل على هذا الاهتمام أن أول دعوة عامة لإنشاء مدرسة نظامية حديثة في الكويت قائمة على التعليم المدني كانت من خلال كلمة  ألقاها الشيخ ياسين الطبطبائي (1860-1918) في يوم الاحتفال بالمولد النبوي عام 1910 الذي قال فيه: "ليس القصد من مولد النبي تلاوة المولد، وإنما القصد الاقتداء بما جاء به النبي-صلى الله عليه وسلم- من الأعمال الجليلة، ولايمكننا الاقتداء به إلا بعد العلم بسيرته، والعلم لا يأتيكم اليوم إلا بفتح المدارس المفيدة، وإنقاذ الأمة من الجهل" (1)  

   وكان انشاء أول مدرسة نظامية أهلية في الكويت في يوم المولد النبوي عام 1911 "مدرسة المباركية" (2) 
بفضل جهود مجموعة من رجالات الكويت وعلى رأسهم الشيخ يوسف بن عيسى القناعي (3) . 

   ونظراً لاهتمام الكويتيين بالاحتفاء بذكرى المولد النبوي تشكل فن صوفي حمل اسم "المالد"، وتم ممارسته من قبل الرجال والنساء (4)، حتى أصبح فناً ذو قالب قائماً بذاته يُمارس طوال أيام السنة. عبارة عن انشاد مدائح بدون آلات موسيقية أو إيقاعية تتضمن سرد قصة المولد النبوي، وكانت القصة -التي تباع آنذاك في الأسواق- لا تتعدى ما كتبه الشيخ البرزنجي، إلا ان الشيخ المستنير عبدالله النوري (1905-1980) قام بتوثيق مجموعة من الخطب التي ألقاها في حفلات المولد النبوي ووضعها في كتاب وذكر في مقدمته : "... ولما كنت حريصاً على جمع ما قلته في هذه الحفلات من كلمات في ذكرى المولد، أو الإسراء، أو الهجرة، فقد أحببت أن أنشر هذا، لعل قارئاً ينتفع أو سامعاً يعتبر، فإن فيما قيل في هذه الحفلات ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين" (5) .

قصيدة من تأليف الشيخ عبدالله النوري (6)
 


الشيخ عبدالله محمد النوري
   ويُؤدى من خلال المنشد الذي يكون له الدور الرئيسي في المالد، ذو الصوت الحسن والنفٓس الطويل، وتكون الجملة اللحنية ذات طابع صوفي عادةً لا تتجاوز أول أربع درجات نغمية من السلم المقامي، ويجلس المنشد مع مجموعة من الحاضرين (الكورال/البطانة/الرديدة/السنيدة/الكورس) يجلسون نصف جلسة سيقانهم على الأرض ويرفعون جذعهم للأعلى وتنحني صدورهم للأسفل وترجع للخلف ويترددون "الله .. حي" و "اللهم صل وسلم عليه" .

   ومن أشهر الفنانين الذي تناولوا فن المالد بالكويت هو الملا محمد الدوب الذي ذاع صيته منذ أربعينيات القرن العشرين، وهذا تسجيل فيديو لمالد أداء الملا محمد الدوب من مقام البياتي يبدأه بجملة لحنية مُحكمة شديدة الرصانة
 "صلوا عليه وسلموا تسليما .. حتى تنالوا جنة ونعيما"
 ثم يعيد الكورال (الغناء الجماعي) أداء هذا المطلع،
وبعدها يكرر الملا الدوب بدخوله منفرداً ويتزامن ذلك في نفس الوقت أداء الكورال الموُقع بقول "الله .. حي" .

تسجيل لمالد مختلف يؤديه الملا محمد الدوب منفرداً دون مصاحبة الكورال من مقام البياتي .

   ونلاحظ انه في كلا التسجيلين ان الجملة اللحنية متفردة في بنيتها وشخصيتها الموسيقية وكيفية سيرها داخل مقام البياتي.

   وبكل أسف بدأ فن المالد بالضمور تدريجياً لحظة انتشار المد المديني السلفي في الكويت منذ سبعينيات القرن العشرين، حتى اندثر، واقتصر الصوفيون على إنشاد بعض المدائح الدينية بشكل طفيف وغير علني في مجالسهم الخاصة .



الفن القادري
   يعتبر ايقاع القادري من الايقاعات الكويتية الأصلية ذات الطابع الديني الصوفي والذي نشأ قديماً منذ مئات السنين كنوع من الضروب الايقاعية التي تستخدم مع القصائد الدينية والمديح ... الخ، وتأدية رقصة محتشمة يميل فيها الرأس والكتف مع توقيع هذه التركيبة الايقاعية. 
   
   وهناك نوعين من فن القادري وهما: القادري الرفاعي والقادري البحري، وكلاهما يتناولان نفس المادة الشعرية الصوفية، ويختلفان في الايقاع الذي يعتبر أساس الأغنية الكويتية كما ذكرنا سلفاً.

طار
   فإيقاع القادري الرفاعي هو ايقاع رباعي يتكون من الطبل البحري الذي يضرب 4 ضربات دم (زمن نوار) متتالية (دم دم دم دم)، مع مصاحبة طبل الطار الذي يضرب (دم دم دم دم تك تك - دم دم دم دم تك سكتة)

بحيث تتزامن تك الطار الاولى والثالثة ودم الطبل البحري الثانية والرابعة .


طبل بحري
   وستتضح طبيعة الايقاع عند سماع هذه القادرية الرفاعية "بسم الله" - لحن من التراث، أداء الفنان الشعبي عبدالوهاب الراشد، واللحن عبارة عن جملة لحنية بسيطة من مقام الحجاز تبدأ من النغمة الرابعة حتى تنزل بشكل بطيء الى القرار، مجرد اربعة نغمات من السلم المقامي ويتم تناولها بطريقة صوفية
   

   أما القادري البحري (ميزان 12/8) فيتكون من الطبل البحري الذي يعزف أساس الوزن وعدد 2 من طبل الطار بحيث يُعزف على كل منهما خلاف الآخر بطريقة زخرفية بتفعيلة معينة، وبهذا المزيج الرائع تظهر لنا النفحة الصوفية في هذا الايقاع الوقور .
 
 مثال ذلك قادرية "نادى المنادي" من أداء عبدالوهاب الراشد، لحن من التراث الذي يتكون من جملة لحنية واحدة في غاية البساطة، من مقام الراست: 
"نادى المنادى بالحرم .. يا سيادي قوموا انزلوا"
وتكرر الجملة اللحنية على نفس النغمات باختلاف الكلمات، وتجدر الإشارة انه برغم من بساطة الجملة اللحنية التي لا تتجاوز اربعة درجات من مقام الراست إلا ان لها طابع شعبي معبر عن روحه العميقة المتصوفة وتلك هي القيمة الجمالية في العمل الفني.

    
الأغنية الكويتية الحديثة:
   لمعرفة المقصود من التطوير والحداثة، نطرح السؤال التالي:
   ما هو الفرق بين الرز الأبيض المطبوخ ورز كل من مكبوس الدجاج وكبسة اللحم وصيادية السمك؟

   الاجابة ان جميع هذه الأطباق عبارة عن طبخة من الرز الأبيض "مضاف إليه" مجموعة من الخضار والتوابل المتنوعة والزيت واللحم مع دسمه، فلو تذوقت ملعقة من الرز الأبيض المطبوخ وتعقبها بملعقة من رز المكبوس أو الصيادية ففي الأخيرة سيكون الرز هو نفس الرز الأبيض تم الإرتقاء به والبناء عليه نحو طعم ألذ وأغنى.

   وهذا ما يفترض في مسألة الحداثة والتطوير، يعني بناء جُملة لحنية بآلات موسيقية وشعرية منبثقة من رحم الإيقاع الخاص بكل فن، بشكل لا يخل بنمط الفن التراثي وبصورة معاصرة تسمو بأصالة هذا الفن، كما جاءت فيزياء اينشتاين وابتلعت فيزياء نيوتن في داخلها.

غنام الديكان ومرزرق المرزوق أعمدة تطوير الأغنية الكويتية:
   ان الدور الذي لعبه كل من الملحن غنام الديكان أطال الله في عمره (م1943) والملحن الراحل مرزوق المرزوق (1946-2000) يعتبر دور مهم ومحوري في تاريخ الأغنية الكويتية الحديثة، حيث قام كلاهما بدراسة مختلف فنون الأغنية الكويتية التراثية والبحث عن طبيعة إيقاعاتها وأنماطها اللحنية والشعرية، التي تشربوها من خلال مجالسة واستماع الفرق الموسيقية الشعبية التي تتناول هذه الفنون مثل فرقة العميري، كما ان غنام ومرزرق يرجع لهم الفضل في توثيق وتدوين الكثير من الايقاعات الشعبية، وبعدما هضموا هذه الفنون المتنوعة وتشبعوها قاموا ببناء ألحان حديثة عليها، مع الحفاظ على طابعها الشعبي.

   والفن القادري لا يُستثنى من هذا التطوير، فنجد أن الملحن القدير غنام الديكان أخذ الجملة اللحنية من قادرية "بسم الله" سالفة الذكر، من مقام الحجاز ولحّن عليها وصنع منها أغنية حديثة متكاملة البناء في غاية الجمال، ضمن الأوبريت الخالد "مذكرات بحار" من تأليف الشاعر محمد الفايز، انتاج عام 1979، أداء الفنانة سناء الخراز "بسم الله"
غنام الديكان

   فعمل غنام الديكان المقدمة الموسيقية مرسلة بدون ايقاع، جُملة شجية من نغمة اللا وتسير برصانة حتى تلامس نغمة الفا دييز التي تعتبر العلامة المميزة لمقام الحجاز في الثانية 21 -بالتسجيل المرفق- حتى تقفل عند درجة ركوز مقام الحجاز على نغمة الري.
(ري مي بيمول فا دييز صول لا سي بيمول دو ري)
   ثم يبدأ دخول إيقاع القادري الرفاعي كل من الطبل البحري والطار وتنساب الفرقة الموسيقية بالنغم الموقع على الايقاع بشكل ينسجم معه تماماً، الكمنجات مع كل ضربة دم وتك، وبصورة حديثة تعبر عن روح هذا الفن الصوفية. 
  حتى تبدأ سناء الخراز بالغناء:
"بسم الله ... عبدالقادر شيء الله قولوا يلا"
ويتخللها توزيع بالكمنجات باللزم الموسيقية القوية والآسرة في هذا الجو الصوفي، ثم تعاد الجملة من خلال أداء الكورال النسائي.

وفي الدقيقة 3:28 يغيّر غنام الديكان الإيقاع إلى القادري البحري ويتنقل الى جنس الراست على نغمة الصول ويبدأ الحوار في غاية التطريب 
سناء الخراز "دعهم يعودوا" 
والكورال "سالمين"
سناء الخراز "دعهم يعودوا"
الكورال "غانمين"
سناء الخراز "ودع القمر"
 يتنقل الديكان الى جنس البياتي على نغمة الري  بجملة مشحونة بالتصوف من أداء الكورال 
"يضوي عليهم في المساء والسحر" 
  ونلاحظ في الأغنية كيفية أداء الرقصات "المحتشمة" مع ايقاع القادري وهي من اخراج الفنان محمد السنعوسي .


    أما الملحن مرزوق المرزوق فقدم لنا تحفة من أعماله القيمة من قالب القادري واسمها ايضاً "بسم الله" من مقام البياني الحسيني على درجة الري في أوائل الثمانينات القرن أداء فرقة التلفزيون، وعمل لحن المقدمة الموسيقية بوليفونية، بمعنى تَوازي خط لحني مصاحب للحن الأساسي، وهذا هو عين التطوير الحقيقي تحت مظلة الهوية الموسيقية التراثية، مع العلم انه أبدع هذا التوزيع مع نغمة البياتي العربية بين المكمنجات والتشيلوهات في الثانية 30 من التسجيل المرفق، وكيفية التصعيد بالوتريات لإضافة شحنة صوفية تلائم هذا الفن، كما نلاحظ في المقدمة دخول نقرات من آلة الغيتار الالكتروني تطابق وزن القادري الرفاعي مرتين في الثانية 25 و 35 بمثابة ارسال اشارات تؤكد على تفعيلة الايقاع، حتى تتناغم الوتريات على البياتي بتوقيع وزن الإيقاع في الثانية 40 الى 43.
مرزوق المرزوق
   وحتى الآن لم تدخل الطبول التي تعتبر أساس فنون الأغنية الكويتية في هذه الحالة (القادري الرفاعي)، إلا أن العبقري مرزوق المرزوق ألّف موسيقى قادرية رفاعية كاملة البنية الصوفية بدون ايقاع في المقدمة الموسيقية سالفة البيان.

   وتدخل الطبول في الثانية 40 حتى يبدأ أداء فرقة التلفزيون (الغناء الجماعي) بالدخول
"بسم الله يا سيدي .. هو البادي .. شي الله"
بأسلوب يقطر طرباً وبطريقة شديدة الاحكام وسير لمقام البياني الحسيني مليء بالوقار
 (ري مي نصف بيمول فا صول لا سي نصف بيمول دو ري
 وهذه الجملة اللحنية قوية ليست بالهزيلة ويتناسب ذلك مع الغناء الجماعي والطابع الصوفي لفن القادري الرفاعي. 

   حتى ينتقل المرزوق الى ايقاع القادري البحري في الدقيقة 2:09
"سلام عليكم .. وردوا السلام" حيث يسير في مقام الحجاز في هذه الجملة التي استمدها من لحن تراثي قديم (7) بعدما قام بتجميلها واضافة اللزم الموسيقية عليها .
"نصبنا الخيام" يلحنها مرتين، الأولى جواب الحجاز والثانية يزخرفها بأسلوبه الطربي المعتاد على جنس الراست .
"على بئر زمزم" وهذه الجملة لحنها بطريقة تتسم بالحيوية لخدمة النص من مقام الحجاز معبراً عن الاجواء الصوفية .

   وتجدر الإشارة إلى ان صناعة الجُملة اللحنية تحت إطار الهوية التراثية هي المحك الحقيقي لأي ملحن يريد أن يطور التراث، فلو أزلنا الفرقة الموسيقية عن قادريات مرزوق أو غنام، فسيكون العمل معبراً عن روح الفن الشعبي ولن يؤثر ذلك على أصالة الجُملة اللحنية التي تم تلحينها حديثاً.
قادرية بسم الله من تلحين مرزوق المرزوق دون الفرقة الموسيقية.
___________________
(1) صفحات من تاريخ الكويت - يوسف بن عيسى القناعي ط3 - ص42-43 .

(2) انظر http://qaz.am/Y63GE

(3) الشيخ يوسف بن عيسى القناعي رجل دين مستنير وقاض شرعي يعتبر من رواد النهضة في الكويت بالقرن العشرين، مؤسس أول مدرسة نظامية لتعليم المرأة، بلدية الكويت ومجلس المعارف والاوقاف، أول مجلة في الخليج العربي، أول مكتبة عامة، أحد المكافحين الأوائل من أجل المشاركة في الحكم حيث كان عضوا بمجلس الشورى عام 1921 والمجلس التشريعي الاول والثاني 1938-1939 .
   وتم تكفيره من قبل الوهابيين وأهدر دمه مع عبدالعزيز الرشيد صقر الشبيب بفتوى من أحد مشايخ الوهابية. انظر الى تاريخ الكويت-عبدالعزيز الرشيد ط2 ص276-277 . مشار إليه في هامش كتاب الثقافة في الكويت ط5 -2011 د. خليفة الوقيان ص 251 .

(4) مقال منشور في وكالة الأنباء الكويتية (كونا) للباحث د. يعقوب يوسف الغنيم بتاريخ 23/1/2013 . http://www.kuna.net.kw/ArticlePrintPage.aspx?id=2288624&language=ar

(5) المحمديات - عبدالله محمد النوري - المقدمة ص7:5

(6) المرجع السابق ص108

(7) https://m.youtube.com/watch?v=TANg9lBVDos